فصل: تفسير الآيات رقم (91 - 92)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏

يقول تعالى إخبارًا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم، من أنهم لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودة، ثم ينجون منها، فرد الله عليهم ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا‏}‏ أي‏:‏ بذلك‏؟‏ فإن كان قد وقع عهد فهو لا يُخْلِف عهده‏.‏

ولكن هذا ما جرى ولا كان‏.‏ ولهذا أتى بـ‏"‏أم‏"‏ التي بمعنى‏:‏ بل، أي‏:‏ بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه‏.‏

قال محمد بن إسحاق، عن سيف بن سليمان عن مجاهد، عن ابن عباس‏:‏ أن اليهود كانوا يقولون‏:‏ هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نُعَذَّب بكل ألف سنة يومًا في النار، وإنما هي سبعة أيام معدودة‏.‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 82‏]‏‏.‏ ثم رواه عن محمد، عن سعيد -أو عكرمة- عن ابن عباس، بنحوه‏.‏

وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً‏}‏ اليهود قالوا‏:‏ لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة، ‏[‏زاد غيره‏:‏ هي مدة عبادتهم العجل، وحكاه القرطبي عن ابن عباس وقتادة‏]‏‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبًا‏:‏ أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم، التي هي نابتة في أصل الجحيم‏.‏ وقال أعداء الله‏:‏ إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك‏.‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً‏}‏ وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً‏}‏ يعني‏:‏ الأيام التي عبدنا فيها العجل‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ لن ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا إليها قوم آخرون، يعنون محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم‏:‏ ‏"‏بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم إليها أحد‏"‏‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً‏}‏ الآية‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه الله‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن جعفر، حدثنا محمد بن محمد بن صخر، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، حدثنا ليث بن سعد، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا‏"‏ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من أبوكم‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ فلان‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏كذبتم، بل أبوكم فلان‏"‏‏.‏ فقالوا‏:‏ صدقت وبَرِرْت، ثم قال لهم‏:‏ ‏"‏هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ نعم، يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا‏.‏ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من أهل النار‏؟‏‏"‏ فقالوا‏:‏ نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها‏.‏ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اخسأوا، والله لا نخلفكم فيها أبدًا‏"‏‏.‏ ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ نعم يا أبا القاسم‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏هل جعلتم في هذه الشاة سمًّا‏؟‏‏"‏‏.‏ فقالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فما حملكم على ذلك‏؟‏‏"‏‏.‏ فقالوا‏:‏ أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك، وإن كنت نبيًا لم يضرك‏.‏ ورواه أحمد، والبخاري، والنسائي، من حديث الليث بن سعد، بنحوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81 - 82‏]‏

‏{‏بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ليس الأمر كما تمنيتم، ولا كما تشتهون، بل الأمر‏:‏ أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته، وهو من وافى يوم القيامة وليس له حسنة، بل جميع عمله سيئات، فهذا من أهل النار، والذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات -من العمل الموافق للشريعة- فهم من أهل الجنة‏.‏ وهذا المقام شبيه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 123، 124‏]‏‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد -أو عكرمة- عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً‏}‏ أي‏:‏ عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط به كفره فما له من حسنة‏.‏ وفي رواية عن ابن عباس، قال‏:‏ الشرك‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروي عن أبي وائل، وأبي العالية، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، نحوه‏.‏ وقال الحسن -أيضًا- والسدي‏:‏ السيئة‏:‏ الكبيرة من الكبائر‏.‏

وقال ابن جريج، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ‏}‏ قال‏:‏ بقلبه‏.‏

وقال أبو هريرة، وأبو وائل، وعطاء، والحسن‏:‏ ‏{‏وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ‏}‏ قالوا‏:‏ أحاط به شركه‏.‏

وقال الأعمش، عن أبي رزين، عن الربيع بن خُثَيم‏:‏ ‏{‏وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ‏}‏ قال‏:‏ الذي يموت على خطايا من قبل أن يتوب‏.‏ وعن السدي، وأبي رزين، نحوه‏.‏

وقال أبو العالية، ومجاهد، والحسن، في رواية عنهما، وقتادة، والربيع بن أنس‏:‏ ‏{‏وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ‏}‏ الكبيرة الموجبة‏.‏

وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، والله أعلم‏.‏ ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال‏:‏ حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عمرو بن قتادة عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عبد الله بن مسعود‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إيَّاكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه‏"‏‏.‏ وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهُنَّ مثلا كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادًا، وأججوا نارًا، فأنضجوا ما قذفوا فيها‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد، عن سعيد -أو عكرمة- عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ أي من آمن بما كفرتم به، وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها‏.‏ يخبرهم أن الثواب بالخير والشرّ مقيم على أهله، لا انقطاع له أبدًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ‏}‏

يُذكّر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر، وأخذ ميثاقهم على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصدًا وعمدًا، وهم يعرفونه ويذكرونه، فأمرهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا‏.‏ وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏ وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها، وهو حق الله تعالى، أن يعبد وحده لا شريك له، ثم بعده حق المخلوقين، وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين، ولهذا يقرن الله تعالى بين حقه وحق الوالدين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 14‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ الآية إلى أن قال‏:‏ ‏{‏وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23-26‏]‏ وفي الصحيحين، عن ابن مسعود، قلت‏:‏ يا رسول الله، أي العمل أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الصلاة على وقتها‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بر الوالدين‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ ثم أيّ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الجهاد في سبيل الله‏"‏‏.‏ ولهذا جاء في الحديث الصحيح‏:‏ أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله، من أبر‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أمك‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أمك‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أباك‏.‏ ثم أدناك أدناك‏"‏‏.‏ ‏[‏وقوله‏:‏ ‏{‏لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ خبر بمعنى الطلب، وهو آكد‏.‏ وقيل‏:‏ كان أصله‏:‏ ألا تعبدوا كما قرأها بعض السلف فحذفت أن فارتفع، وحكي عن أبي وابن مسعود، رضي الله عنهما، أنهما قرآها‏:‏ ‏"‏لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّه‏"‏‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏لا تَعْبُدُونَ‏}‏ مرفوع على أنه قسم، أي‏:‏ والله لا تعبدون إلا الله، ونقل هذا التوجيه القرطبي في تفسيره عن سيبويه‏.‏ وقال‏:‏ اختاره المبرد والكسائي والفراء‏]‏‏.‏

قال‏:‏ ‏{‏وَالْيَتَامَى‏}‏ وهم‏:‏ الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء‏.‏ ‏[‏وقال أهل اللغة‏:‏ اليتيم في بني آدم من الآباء، وفي البهائم من الأم، وحكى الماوردي أن اليتيم أطلق في بني آدم من الأم أيضا‏]‏ ‏{‏وَالْمَسَاكِينَ‏}‏ الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم، وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النساء، التي أمرنا الله تعالى بها صريحًا في قوله‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا‏}‏ أي‏:‏ كلموهم طيبًا، ولينُوا لهم جانبًا، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف، كما قال الحسن البصري في قوله‏:‏ ‏{‏وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا‏}‏ فالحُسْن من القول‏:‏ يأمُر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم، ويعفو، ويصفح، ويقول للناس حسنًا كما قال الله، وهو كل خُلُق حسن رضيه الله‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا روح، حدثنا أبو عامر الخَزَّاز، عن أبي عمران الجَوْني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏لا تحقرن من المعروف شيئًا، وإن لم تجد فَالْقَ أخاك بوجه منطلق‏"‏‏.‏

وأخرجه مسلم في صحيحه، والترمذي ‏[‏وصححه‏]‏ من حديث أبي عامر الخزّاز، واسمه صالح بن رستم، به‏.‏

وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسنًا، بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي‏.‏ ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمُعيّن من ذلك، وهو الصلاة والزكاة، فقال‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ‏}‏ وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله، أي‏:‏ تركوه وراء ظهورهم، وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به، إلا القليل منهم، وقد أمر تعالى هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء، بقوله‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏ فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها، ولله الحمد والمنة‏.‏

ومن النقول الغريبة هاهنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا محمد بن خلف العسقلاني، حدثنا عبد الله بن يوسف -يعني التِّنِّيسِي- حدثنا خالد بن صَبِيح، عن حميد بن عقبة، عن أسد بن وَدَاعة‏:‏ أنه كان يخرج من منزله فلا يلقى يهوديًا ولا نصرانيًا إلا سلم عليه، فقيل له‏:‏ ما شأنك‏؟‏ تسلم على اليهودي والنصراني‏.‏ فقال‏:‏ إن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا‏}‏ وهو‏:‏ السلام‏.‏ قال‏:‏ وروي عن عطاء الخراساني، نحوه‏.‏ قلت‏:‏ وقد ثبت في السنة أنهم لا يبدؤون بالسلام، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84 - 86‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ‏}‏

يقول، تبارك وتعالى، منكرًا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج، وهم الأنصار، كانوا في الجاهلية عُبَّاد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاثَ قبائل‏:‏ بنو قينقاع‏.‏ وبنو النضير حلفاء الخزرج‏.‏ وبنو قريظة حلفاء الأوس‏.‏ فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهوديّ الآخرُ من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم في دينه ونص كتابه، ويخرجونهم من بيوتهم وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق المغلوب، عملا بحكم التوراة؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ‏}‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يخرجه من منزله، ولا يظاهر عليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 54‏]‏ وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة، كما قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر‏"‏‏.‏

‏[‏وقوله‏]‏ ‏{‏ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ‏}‏ أي‏:‏ ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به‏.‏

‏{‏ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ‏}‏ قال محمد بن إسحاق بن يسار‏:‏ حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير -أو عكرمة- عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ الآية، قال‏:‏ أنبهم الله من فعلهم، وقد حرّم عليهم في التوراة سفك دمائهم وافترض عليهم فيها فدَاء أسراهم، فكانوا فريقين‏:‏ طائفة منهم بنو قينقاع وإنهم حلفاء الخزرج، والنضير، وقريظة وإنهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم‏.‏ والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، ولا يعرفون جنة ولا نارًا، ولا بعثًا ولا قيامة، ولا كتابًا، ولا حلالا ولا حرامًا، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم، تصديقًا لما في التوراة، وأخذًا به؛ بعضهم من بعض، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم‏.‏ يقول الله تعالى ذكره حيث أَنَّبهم بذلك‏:‏ ‏{‏أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ‏}‏ أي‏:‏ يفاديه بحكم التوراة ويقتله، وفي حكم التوراة ألا يفعل، ولا يُخرج من داره، ولا يُظَاهَر عليه من يُشْرك بالله، ويعبد الأوثان من دونه، ابتغاء عرض الدنيا‏.‏ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج -فيما بلغني- نزلت هذه القصة‏.‏

وقال أسباط عن السدي‏:‏ كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب سُمَير، فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضيرَ وحلفاءهم، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها، ويغلبونهم، فيخربون ديارهم، ويخرجونهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين كليهما، جمعوا له حتى يفدوه‏.‏ فتعيرهم العرب بذلك، ويقولون‏:‏ كيف تقاتلونهم وتفدونهم‏؟‏ قالوا‏:‏ إنا أمرنا أن نفديهم، وحرّم علينا قتالهم، قالوا‏:‏ فلم تقاتلونهم‏؟‏ قالوا‏:‏ إنَّا نستحيى أن تُسْتَذلّ حلفاؤنا‏.‏ فذلك حين عيَّرهم الله، فقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ‏}‏ وقال شعبة، عن السدي‏:‏ نزلت هذه الآية في قيس بن الخَطيم‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏}‏ وقال أسباط، عن السدي، عن عبد خير، قال‏:‏ غزونا مع سلمان بن ربيعة الباهلي بَلَنْجَر فحاصرنا أهلها ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا واشترى عبد الله بن سلام يهودية بسبعمائة، فلما مرّ برأس الجالوت نزل به، فقال له عبد الله‏:‏ يا رأس الجالوت، هل لك في عجوز هاهنا من أهل دينك، تشتريها مني‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ أخذتها بسبعمائة درهم‏.‏ قال‏:‏ فإني أرْبحُك سبعمائة أخرى‏.‏ قال‏:‏ فإني قد حلفت ألا أنقصها من أربعة آلاف‏.‏ قال‏:‏ لا حاجة لي فيها، قال‏:‏ والله لتشترينها مني، أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه‏.‏ قال‏:‏ ادن مني، فدنا منه، فقرأ في أذنه التي في التوراة‏:‏ إنك لا تجد مملوكًا من بني إسرائيل إلا اشتريته فأعتقته ‏{‏وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ‏}‏ قال‏:‏ أنت عبد الله بن سلام‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فجاء بأربعة آلاف، فأخذ عبد الله ألفين، ورد عليه ألفين‏.‏

وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره‏:‏ حدثنا أبو جعفر يعني الرازي، حدثنا الربيع بن أنس، أخبرنا أبو العالية‏:‏ أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليها العرب، ولا يفادي من وقع عليها العرب، فقال عبد الله بن سلام‏:‏ أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن‏.‏

والذي أرشدت إليه الآية الكريمة، وهذا السياق، ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها، ومخالفة شرعها، مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما يكتمونه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته، ومبعثه ومخرجه، ومهاجره، وغير ذلك من شؤونه، التي قد أخبرت بها الأنبياء قبله‏.‏ واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى ‏{‏فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ أي‏:‏ بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره ‏{‏وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ‏}‏ جزاء على ما كتموه من كتاب الله الذي بأيديهم ‏{‏وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ‏}‏ أي‏:‏ استحبوها على الآخرة واختاروها ‏{‏فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ‏}‏ أي‏:‏ لا يفتر عنهم ساعة واحدة ‏{‏وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي، ولا يجيرهم منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ‏}‏

ينعت، تبارك وتعالى، بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة، والاستكبار على الأنبياء، وأنهم إنما يتبعون أهواءهم، فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب -وهو التوراة- فحرفوها وبدلوها، وخالفوا أوامرها وأولوها‏.‏ وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ‏}‏ قال السدي، عن أبي مالك‏:‏ أتبعنا‏.‏ وقال غيره‏:‏ أردفنا‏.‏ والكل قريب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 44‏]‏ حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم، فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام، ولهذا أعطاه الله من البينات، وهي‏:‏ المعجزات‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ من إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرًا بإذن الله، وإبرائه الأسقام، وإخباره بالغيوب، وتأييده بروح القدس، وهو جبريل عليه السلام -ما يدلهم على صدقه فيما جاءهم به‏.‏ فاشتد تكذيب بني إسرائيل له وحَسَدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في البعض، كما قال تعالى إخبارًا عن عيسى‏:‏ ‏{‏وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 50‏]‏‏.‏ فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء عليهم السلام أسوأ المعاملة، ففريقًا يكذبونه‏.‏ وفريقًا يقتلونه، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم وبإلزامهم بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها، فلهذا كان يشق ذلك عليهم، فيكذبونهم، وربما قتلوا بعضهم؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ‏}‏ والدليل على أن روح القدس هو جبريل، كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الآية، وتابعه على ذلك ‏[‏ابن عباس و‏]‏ محمد بن كعب القرظي، وإسماعيل بن أبي خالد، والسدي، والربيع بن أنس، وعطية العوفي، وقتادة مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ‏[‏بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ‏]‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 193-195‏]‏ ما قال البخاري‏:‏ وقال ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة، عن عائشة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لحسان بن ثابت منْبرًا في المسجد، فكان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك‏"‏‏.‏ وهذا من البخاري تعليق‏.‏

وقد رواه أبو داود في سننه، عن لُوَين، والترمذي، عن علي بن حجر، وإسماعيل بن موسى الفزاري، ثلاثتهم عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه وهشام بن عروة، كلاهما عن عروة، عن عائشة به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح، وهو حديث أبي الزناد‏.‏

وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة‏:‏ أن عمر مر بحسان، وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه، فقال‏:‏ قد كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك‏.‏ ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال‏:‏ أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏أجب عني، اللهم أيده بروح القدس‏"‏‏؟‏‏.‏ فقال‏:‏ اللَّهُمَّ نعم‏.‏

وفي بعض الروايات‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان‏:‏ ‏"‏أهجهم -أو‏:‏ هاجهم- وجبريل معك‏"‏‏.‏

‏[‏وفي شعر حسان قوله‏:‏

وجبريل رسول الله ينادي *** وروح القدس ليس به خفاء‏]‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي، عن شهر بن حوشب الأشعري‏:‏ أن نفرًا من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ أخبرنا عن الروح‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنه جبريل‏؟‏ وهو الذي يأتيني‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏

‏[‏وفي صحيح ابن حبان أظنه عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن روح القدس نفخ في روعي‏:‏ إن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب‏"‏‏]‏‏.‏

أقوال أخر‏:‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا منْجاب بن الحارث، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏بِرُوحِ الْقُدُسِ‏}‏ قال‏:‏ هو الاسم الأعظم الذي كان عيسى يُحيي به الموتى‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ حُدثت عن المنجاب‏.‏ فذكره‏.‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك‏.‏ ‏[‏ونقله القرطبي عن عبيد بن عمير -أيضا- قال‏:‏ وهو الاسم الأعظم‏]‏‏.‏

وقال ابن أبي نَجِيح‏:‏ الروح هو حفظة على الملائكة‏.‏

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس‏:‏ القدس هو الرب تبارك وتعالى‏.‏ وهو قول كعب‏.‏ وقال السدي‏:‏ القدس‏:‏ البركة‏.‏ وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ القدس‏:‏ الطهر‏.‏

‏[‏وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا القدس‏:‏ هو الله تعالى، وروحه‏:‏ جبريل، فعلى هذا يكون القول الأول‏]‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب قال‏:‏ قال ابن زيد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏}‏ قال‏:‏ أيد الله عيسى بالإنجيل روحًا كما جعل القرآن روحًا، كلاهما روح من الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏‏.‏

ثم قال ابن جرير‏:‏ وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قولُ من قال‏:‏ الروح في هذا الموضع جبريل، لأن الله، عز وجل، أخبر أنه أيد عيسى به، كما أخبر في قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 110‏]‏‏.‏ فذكر أنه أيده به، فلو كان الروح الذي أيده به هو الإنجيل، لكان قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏}‏ ‏{‏وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ‏}‏ تكرير قول لا معنى له، والله أعز أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به‏.‏ قلت‏:‏ ومن الدليل على أنه جبريل ما تقدم في أول السياق؛ ولله الحمد‏.‏

وقال الزمخشري ‏{‏بِرُوحِ الْقُدُسِ‏}‏ بالروح المقدسة، كما يقول‏:‏ حاتم الجود ورجل صدق ووصفها بالقدس كما قال‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مِنْهُ‏}‏ فوصفه بالاختصاص والتقريب تكرمة، وقيل‏:‏ لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث، وقيل‏:‏ بجبريل، وقيل‏:‏ بالإنجيل، كما قال في القرآن‏:‏ ‏{‏رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏ وقيل باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره، وتضمن كلامه قولا آخر وهو أن المراد روح عيسى نفسه المقدسة المطهرة‏.‏

وقال الزمخشري في قوله‏:‏ ‏{‏فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ‏}‏ إنما لم يقل‏:‏ وفريقًا قتلتم؛ لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل -أيضًا- لأنهم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والسحر، وقد قال، عليه السلام، في مرض موته‏:‏ ‏"‏ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري‏"‏، وهذا الحديث في صحيح البخاري وغيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ‏}‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏ أي‏:‏ في أكنة‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏ أي‏:‏ لا تفقه‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏ ‏[‏قال‏]‏ هي القلوب المطبوع عليها‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏ عليها غشاوة‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ عليها طابع‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ أي لا تفقه‏.‏ وقال السدي‏:‏ يقولون‏:‏ عليها غلاف، وهو الغطاء‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏ هو كقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، في قوله‏:‏ ‏{‏غُلْفٌ‏}‏ قال‏:‏ يقول‏:‏ قلبي في غلاف فلا يَخْلُص إليه ما تقول، قرأ ‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ‏}‏

وهذا هو الذي رجحه ابن جرير، واستشهد مما روي من حديث عمرو بن مُرّة الجملي، عن أبي البختري، عن حذيفة، قال‏:‏ القلوب أربعة‏.‏ فذكر منها‏:‏ وقلب أغلف مَغْضُوب عليه، وذاك قلب الكافر‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الرحمن العَرْزَمي، أنبأنا أبي، عن جدي، عن قتادة، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏ قال‏:‏ لم تختن‏.‏ هذا القول يرجع معناه إلى ما تقدم من عدم طهارة قلوبهم، وأنها بعيدة من الخير‏.‏

قول آخر‏:‏ قال الضحاك، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏ قال قالوا‏:‏ قلوبنا مملوءة علمًا لا تحتاج إلى علم محمد، ولا غيره‏.‏ وقال عطية العوفي‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏ أي‏:‏ أوعية للعلم‏.‏

وعلى هذا المعنى جاءت قراءة بعض الأنصار فيما حكاه ابن جرير‏:‏ ‏"‏وقالوا قلوبنا غُلُف‏"‏ بضم اللام، أي‏:‏ جمع غلاف، أي‏:‏ أوعية، بمعنى أنهم ادعوا أن قلوبهم مملوءة بعلم لا يحتاجون معه إلى علم آخر‏.‏ كما كانوا يَمُنُّون بعلم التوراة‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ‏}‏، أي‏:‏ ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها، كما قال في سورة النساء‏:‏ ‏{‏وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155‏]‏‏.‏ وقد اختلفوا في معنى قوله‏:‏ ‏{‏فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا‏}‏، فقال بعضهم‏:‏ فقليل من يؤمن منهم ‏[‏واختاره فخر الدين الرازي وحكاه عن قتادة والأصم وأبي مسلم الأصبهاني‏]‏ وقيل‏:‏ فقليل إيمانهم‏.‏ بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب، ولكنه إيمان لا ينفعهم، لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء، وإنما قال‏:‏ ‏{‏فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ‏}‏ وهم بالجميع كافرون، كما تقول العرب‏:‏ قلما رأيت مثل هذا قط‏.‏ تريد‏:‏ ما رأيت مثل هذا قط‏.‏ ‏[‏وقال الكسائي‏:‏ تقول العرب‏:‏ من زنى بأرض قلما تنبت، أي‏:‏ لا تنبت شيئًا‏]‏‏.‏ حكاه ابن جرير، والله أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ‏}‏ يعني اليهود ‏{‏كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ وهو‏:‏ القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ من التوراة، وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ أي‏:‏ وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، يقولون‏:‏ إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم، كما قال محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عُمَر عن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم قال‏:‏ قالوا‏:‏ فينا والله وفيهم -يعني في الأنصار- وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم، نزلت هذه القصة يعني‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ‏}‏ قالوا كنا قد علوناهم دهرًا في الجاهلية، ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون‏:‏ إن نبيًا من ‏[‏الأنبياء‏]‏ يبعث الآن نتبعه، قد أظل زمانه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم‏.‏ فلما بعث الله رسوله من قريش ‏[‏واتبعناه‏]‏ كفروا به‏.‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155‏]‏‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ قال‏:‏ يستظهرون يقولون‏:‏ نحن نعين محمدًا عليهم، وليسوا كذلك، يكذبون‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ أخبرني محمد بن أبي محمد، أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ أن يَهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه‏.‏ فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه‏.‏ فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن مَعْرُور، أخو بني سلمة يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفُونه لنا بصفته‏.‏ فقال سَلام بن مِشْكم أخو بني النضير‏:‏ ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله في ذلك من قولهم‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ يقول‏:‏ يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب -يعني بذلك أهل الكتاب- فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب، يقولون‏:‏ اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم‏.‏ فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، ورأوا أنه من غيرهم، كفروا به حسدًا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ قال‏:‏ كانوا يقولون‏:‏ إنه سيأتي نبي‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ‏}‏‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ قال‏:‏ هم اليهود‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمود بن لبيد، أخي بني عبد الأشهل عن سلمة بن سلامة بن وقش، وكان من أهل بدر قال‏:‏ كان لنا جار يهودي في بني عبد الأشهل قال‏:‏ فخرج علينا يومًا من بيته قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير، حتى وقف على مجلس بني عبد الأشهل‏.‏ قال سلمة‏:‏ وأنا يومئذ أحدث من فيهم سنًّا على بردة مضطجعًا فيها بفناءٍ أصلي‏.‏ فذكر البعث والقيامة والحسنات والميزان والجنة والنار‏.‏ قال ذلك لأهل شرك أصحاب أوثان لا يرون بعثًا كائنًا بعد الموت، فقالوا له‏:‏ ويحك يا فلان، ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، والذي يحلف به، لود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غدًا‏.‏ قالوا له‏:‏ ويحك وما آية ذلك‏؟‏ قال‏:‏ نبي‏.‏ يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن‏.‏ قالوا‏:‏ ومتى نراه‏؟‏ قال‏:‏ فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سنًّا، فقال‏:‏ إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه‏.‏ قال سلمة‏:‏ فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به بغيًا وحسدًا‏.‏ فقلنا‏:‏ ويلك يا فلان، ألست بالذي قلت لنا‏؟‏ قال‏:‏ بلى وليس به‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

وحكى القرطبي وغيره عن ابن عباس، رضي الله عنهما‏:‏ أن يهود خيبر اقتتلوا في زمان الجاهلية مع غطفان فهزمتهم غطفان، فدعا اليهود عند ذلك، فقالوا‏:‏ اللهم إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا بإخراجه في آخر الزمان، إلا نصرتنا عليهم‏.‏ قال‏:‏ فنصروا عليهم‏.‏ قال‏:‏ وكذلك كانوا يصنعون يدعون الله فينصرون على أعدائهم ومن نازلهم‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا‏}‏ أي من الحق وصفة محمد صلى الله عليه وسلم ‏"‏كَفَرُوا به‏"‏ فلعنة الله على الكافرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ‏}‏

قال مجاهد‏:‏ ‏{‏بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ يهودُ شَرَوُا الحقَّ بالباطل، وكتمانَ مَا جاءَ به مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه‏.‏ وقال السدي‏:‏ ‏{‏بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ باعوا به أنفسهم، يعني‏:‏ بئسما اعتاضوا لأنفسهم ورضوا به ‏[‏وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم إلى تصديقه ومؤازرته ونصرته‏]‏‏.‏ وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية ‏{‏أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ ولا حسد أعظم من هذا‏.‏

قال ابن إسحاق عن محمد، عن عكرمة أو سعيد، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ أي‏:‏ إن الله جعله من غيرهم ‏{‏فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ فالغضب على الغضب، فغضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم‏.‏

قلت‏:‏ ومعنى ‏{‏بَاءُوا‏}‏ استوجبوا، واستحقوا، واستقروا بغضب على غضب‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضب عليهم بكفرهم بمحمد، وبالقرآن عليهما السلام، ‏[‏وعن عكرمة وقتادة مثله‏]‏‏.‏

قال السدي‏:‏ أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العِجْل، وأما الغضب الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ‏[‏وعن ابن عباس مثله‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ‏}‏ لما كان كفرهم سببه البغي والحسد، ومنشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏، ‏[‏أي‏:‏ صاغرين حقيرين ذليلين راغمين‏]‏‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى، حدثنا ابن عَجْلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنًا في جهنم، يقال له‏:‏ بُولَس فيعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال‏:‏ عصارة أهل النار‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91 - 92‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب ‏{‏آمِنُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏أي‏]‏‏:‏ على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه ‏{‏قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزلَ عَلَيْنَا‏}‏ أي‏:‏ يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك، ‏{‏وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ‏}‏ يعنى‏:‏ بما بعده ‏{‏وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم الحق ‏{‏مُصَدِّقًا‏}‏ منصوب على الحال، أي في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل، فالحجة قائمة عليهم بذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 146‏]‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏[‏قُلْ‏]‏ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها، وأنتم تعلمون صدقهم‏؟‏ قتلتموهم بغيًا ‏[‏وحسدًا‏]‏ وعنادًا واستكبارًا على رسل الله، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء، والآراء والتشهي كما قال تعالى ‏{‏أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 87‏]‏‏.‏

وقال السدي‏:‏ في هذه الآية يعيرهم الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ وقال أبو جعفر بن جرير‏:‏ قل يا محمد ليهود بني إسرائيل -‏[‏الذين‏]‏ إذا قلت لهم‏:‏ آمنوا بما أنزل الله قالوا‏:‏ ‏{‏نُؤْمِنُ بِمَا أُنزلَ عَلَيْنَا‏}‏ -‏:‏ لم تقتلون -إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنزل الله عليكم- أنبياءه وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم، بل أمركم فيه باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم، وذلك من الله تكذيب لهم في قولهم‏:‏ ‏{‏نُؤْمِنُ بِمَا أُنزلَ عَلَيْنَا‏}‏ وتعيير لهم‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ‏}‏ أي‏:‏ بالآيات الواضحات والدلائل القاطعة على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله‏.‏ والبينات هي‏:‏ الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، وفَلْق البحر، وتظليلهم بالغمام، والمن والسلوى، والحجر، وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها ‏{‏ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ‏}‏ أي‏:‏ معبودًا من دون الله في زمان موسى وآياته‏.‏ وقوله ‏{‏مِنْ بَعْدِهِ‏}‏ أي‏:‏ من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏، ‏{‏وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏أي وأنتم ظالمون‏]‏ في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل، وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 149‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏

يعدد، تبارك وتعالى، عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم عنه، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا‏}‏ وقد تقدم تفسير ذلك‏.‏

‏{‏وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ‏}‏ قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة‏:‏ ‏{‏وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ‏[‏بِكُفْرِهِمْ‏]‏ قال‏:‏ أشربوا ‏[‏في قلوبهم‏]‏ حبه، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم‏.‏ وكذا قال أبو العالية، والربيع بن أنس‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عصام بن خالد، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني، عن خالد بن محمد الثقفي، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏حُبُّك الشيء يُعْمِي ويُصم‏"‏‏.‏ ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح عن بَقِيَّة، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به وقال السدي‏:‏ أخذ موسى، عليه السلام، العجل فذبحه ثم حرقه بالمبرد، ثم ذراه في البحر، فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه، ثم قال لهم موسى‏:‏ اشربوا منه‏.‏ فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب‏.‏ فذلك حين يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ‏}‏ وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عمارة بن عبد وأبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب، قال‏:‏ عمد موسى إلى العجل، فوضع عليه المبارد، فبرده بها، وهو على شاطئ نهر، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ‏}‏ قال‏:‏ لما أحرق العجل بُرِدَ ثم نسف، فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران‏.‏

وحكى القرطبي عن كتاب القشيري‏:‏ أنه ما شرب منه أحد ممن عبد العجل إلا جنَّ ‏[‏ثم قال القرطبي‏]‏ وهذا شيء غير ما هاهنا؛ لأن المقصود من هذا السياق، أنه ظهر النقير على شفاههم ووجوههم، والمذكور هاهنا‏:‏ أنهم أشربوا في قلوبهم حب العجل، يعني‏:‏ في حال عبادتهم له، ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة‏:‏

تغلغل حب عثمة في فؤادي *** فباديه مع الخافي يسير

تغلغل حيث لم يبلغ شراب *** ولا حزن ولم يبلغ سرور

أكاد إذا ذكرت العهد منها *** أطير لو أن إنسانا يطير

وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه، من كفركم بآيات الله ومخالفتكم الأنبياء، ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم -وهذا أكبر ذنوبكم، وأشد الأمور عليكم- إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين، فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة، من نقضكم المواثيق، وكفركم بآيات الله، وعبادتكم العجل‏؟‏‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94 - 96‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب‏.‏ فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ بِعِلْمِهِم بما عندهم من العلم بك، والكفر بذلك، ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ‏}‏ فسلوا الموت‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، قوله‏:‏ ‏{‏فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ لو تمنى اليهود الموت لماتوا‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسِي، حدثنا عثام، سمعت الأعمش -قال‏:‏ لا أظنه إلا عن المِنْهال، عن سعيد بن جبير- عن ابن عباس، قال‏:‏ لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه‏.‏ وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس‏.‏

وقال ابن جرير في تفسيره‏:‏ وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا‏.‏ ولرأوا مقاعدهم من النار‏.‏ ولو خرج الذين يُباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا‏"‏‏.‏ حدثنا بذلك أبو كُرَيْب، حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقي ‏[‏أبي يزيد‏]‏ حدثنا فرات، عن عبد الكريم، به‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا الحسن بن أحمد ‏[‏قال‏]‏‏:‏ حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار، حدثنا سرور بن المغيرة، عن عباد بن منصور، عن الحسن، قال‏:‏ قول الله ما كانوا ليتمنوه بما قدمت أيديهم‏.‏ قلت‏:‏ أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم‏:‏ تمنوا، أتراهم كانوا ميتين‏؟‏ قال‏:‏ لا والله ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت، وما كانوا ليتمنوه، وقد قال الله ما سمعت‏:‏ ‏{‏وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ‏}‏ وهذا غريب عن الحسن‏.‏ ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الآية هو المتعين، وهو الدعاء على أي الفريقين أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة، ونقله ابن جرير عن قتادة، وأبي العالية، والربيع بن أنس، رحمهم الله‏.‏

ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 6-8‏]‏ فهم -عليهم لعائن الله- لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقالوا‏:‏ لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى، دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم، أو من المسلمين‏.‏ فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون؛ لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا علم كذبهم‏.‏ وهذا كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة، وعتوّهم وعنادهم إلى المباهلة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 61‏]‏ فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض‏:‏ والله لئن باهلتم هذا النبيّ لا يبقى منكم عين تطرف‏.‏ فعند ذلك جنحوا للسلم وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فضربها عليهم‏.‏ وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه، أمينًا‏.‏ ومثل هذا المعنى أو قريب منه قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 75‏]‏، أي‏:‏ من كان في الضلالة منا أو منكم، فزاده الله مما هو فيه ومَدّ له، واستدرجه، كما سيأتي تقريره في موضعه، إن شاء الله‏.‏

فأما من فسر الآية على معنى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ إن كنتم صادقين في دعواكم، فتمنوا الآن الموت‏.‏ ولم يتعرض هؤلاء للمباهلة كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم، ومال إليه ابن جرير بعد ما قارب القول الأول؛ فإنه قال‏:‏ القول في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ وهذه الآية مما احتج الله به لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مُهَاجَره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم؛ وذلك أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم إلى قضية عادلة بينه وبينهم، فيما كان بينه وبينهم من الخلاف، كما أمره أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إذا خالفوه في عيسى ابن مريم، عليه السلام، وجادلوه فيه، إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة‏.‏ فقال لفريق ‏[‏من‏]‏ اليهود‏:‏ إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك غير ضار بكم إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله، بل أعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها، والفوز بجوار الله في جناته إن كان الأمر كما تزعمون‏:‏ من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا‏.‏ وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا، وانكشف أمرنا وأمركم لهم فامتنعت اليهود من الإجابة إلى ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت، فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها، كما امتنع فريق ‏[‏من‏]‏ النصارى‏.‏

فهذا الكلام منه أوله حسن، وأما آخره فيه نظر؛ وذلك أنه لا تظهر الحجة عليهم على هذا التأويل، إذ يقال‏:‏ إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أنهم يتمنوا الموت فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت، وكم من صالح لا يتمنى الموت، بل يود أن يعمر ليزداد خيرًا وترتفع درجته في الجنة، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏خيركم من طال عمره وحسن عمله‏"‏‏.‏ ‏[‏وجاء في الصحيح النهي عن تمني الموت، وفي بعض ألفاظه‏:‏ ‏"‏لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما محسنًا فلعله أن يزداد، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب‏"‏‏]‏‏.‏ ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا‏:‏ فها أنتم تعتقدون -أيها المسلمون- أنكم أصحاب الجنة، وأنتم لا تتمنون في حال الصحة الموت؛ فكيف تلزمونا بما لا نُلزمكم‏؟‏

وهذا كله إنما نشأ من تفسير الآية على هذا المعنى، فأما على تفسير ابن عباس فلا يلزم عليه شيء من ذلك، بل قيل لهم كلام نَصَف‏:‏ إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس، وأنكم أبناء الله وأحبّاؤه، وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم ‏[‏من‏]‏ أهل النار، فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم، واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة‏.‏ فلما تيقَّنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ونعته، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه‏.‏ فعلم كل أحد باطلهم، وخزيهم، وضلالهم وعنادهم -عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة‏.‏

‏[‏وسميت هذه المباهلة تمنيًا؛ لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له فيها بيان حقه وظهوره، وكانت المباهلة بالموت؛ لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت‏]‏‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ ‏[‏أحرص الخلق على حياة أي‏]‏‏:‏ على طول عُمْر، لما يعلمون من مآلهم السيئ وعاقبتهم عند الله الخاسرة؛ لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم‏.‏ وما يحذرون واقع بهم لا محالة، حتى وهم أحرص ‏[‏الناس‏]‏ من المشركين الذين لا كتاب لهم‏.‏ وهذا من باب عطف الخاص على العام‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا‏}‏ قال‏:‏ الأعاجم‏.‏

ورواه الحاكم في مستدركه من حديث الثوري، وقال‏:‏ صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه‏.‏ قال‏:‏ وقد اتفقا على سند تفسير الصحابي‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ‏}‏ قال‏:‏ المنافق أحرص الناس على حياة، وهو أحرص على الحياة من المشرك ‏{‏يَوَدُّ أَحَدُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أحد اليهود كما يدل عليه نظم السياق‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ ‏{‏يَوَدُّ أَحَدُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ المجوس، وهو يرجع إلى الأول‏.‏

‏{‏لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ قال الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ قال‏:‏ هو كقول الفارسي‏:‏ ‏"‏زه هزارسال‏"‏ يقول‏:‏ عشرة آلاف سنة‏.‏ وكذا روي عن سعيد بن جبير نفسه أيضًا‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ حدثنا أبو حمزة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ قال‏:‏ هو الأعاجم‏:‏ ‏"‏هزارسال نوروزر مهرجان‏"‏‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ قال‏:‏ حببت إليهم الخطيئة طول العمر‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ‏}‏ أي‏:‏ ما هو بمنجيه من العذاب‏.‏ وذلك أن المشرك لا يرجو بعثًا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما صنع بما عنده من العلم‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ‏}‏ قال‏:‏ هم الذين عادوا جبريل‏.‏ وقال أبو العالية وابن عمر فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منجيه منه‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ‏[‏في هذه الآية‏]‏ يهود أحرص على ‏[‏هذه‏]‏ الحياة من هؤلاء، وقد ود هؤلاء أن يعمر أحدهم ألف سنة، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عمر، كما عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافرًا‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ خبير بما يعمل عباده من خير وشر، وسيجازي كل عامل بعمله‏.‏